الأحد، 27 سبتمبر 2009

موضوع صحي: الاستثمار في الكوادر الصحية.. ضرورة وطنية مُلحَّة

الاستثمار في الكوادر الصحية.. ضرورة وطنية مُلحَّة

د. محمد بن سعد المعمري

إن الاستثمار لا يكون مجديًا إذا اقتصر على بنيته الهيكلية الظاهرة للعيان والمتمثلة في المباني والمنشآت والمصانع والمستشفيات، ولذلك فإن نجاحه يستلزم - بداية - توسيع آفاقه لتشمل القوى البشرية حتى يتكامل ظاهره مع محتواه. والاهتمام بالمحتوى يعني إعداد كوادر ذات كفاءات ومهارات عالية ومتقدمة وتهيئتها في كثير من المجالات الحيوية لكونها الطاقة المحركة والعمود الأساسي لعجلة الإنتاج والتنمية.
ولا شك أننا جميعًا نرصد ونتابع ارتفاع معدلات النمو السكاني في المملكة العربية السعودية خلال العقود الماضية، الذي صحبه تطور ملحوظ في مستويات التعليم والتأهيل والتدريب، وهذا أدى بدوره إلى ارتفاع قدرة سوق العمل السعودي على استيعاب الأعداد المتزايدة من الكفاءات العلمية والمهارات المهنية والحرفية التي تدخل ساحته سنويًّا، لا سيما وأن الاقتصاد السعودي يتنامى بإيقاع متسارع يتجاوز المعايير المتعارف عليها عالميًّا في حركة النمو والتطور، ونتجت عن ذلك طفرة اقتصادية شاملة في كل المجالات اتَّسعت مظلَّتها لتعمَّ أرجاء الوطن كله، وفي إطار هذا النمو المطَّرد كان للقطاع الصحي نصيب وافر من الاهتمام في ذهنية المُخطِّط السعودي، وحظي بميزانيات مقدَّرة في خطط الدولة الخمسية.
وعكس هذا اهتمام ولاة الأمر وحرصهم الكامل على المواطن بوصفه رأسمال التنمية ومحور حركة النماء والتطور. وتجلَّى هذا الحرص وهذا الاهتمام بصورة واضحة في عدد من الصروح الصحية المتكاملة مظهرًا وجوهرًا بالقطاعين الحكومي والخاص؛ فضلاً عن التوسُّع والتطوير المستمر والمتتابع في بنية القائم منها الآن وخدماته. وتُمثل الخدمات الصحية المتاحة والمتوفرة حاليًّا ضلعًا أساسيًّا في منظومة الخدمات التي يتمتَّع بها المواطن السعودي في مختلف جوانب حياته، ويواكب هذا التوسُّع الطلب المتنامي على هذا النوع من الخدمات، ويرمي إلى تخفيف الضغط والأعباء المتزايدة بدورها على القطاع الصحي.

ومما لا شك فيه أن الطلب على الخدمات الصحية يعدُّ انعكاسًا طبيعيًّا لتطور أنماط الحياة المدنية، ولاكتساب المواطنين سلوكيات وعادات اجتماعية جديدة اقترنت بتفشي أمراض عصرية لم تكن معهودة في السابق بهذا القدر من الانتشار، ونتيجة لذلك لا يفتأ العبء على القطاع الصحي يتزايد مع حاجته المستمرة إلى كوادر متخصصة عالية التأهيل.. ولا غرابة في ذلك لأن دول الخليج - وبعض الدول المجاورة - نما لديها احتياج شديد وملح للخدمات الصحية بنسب متفاوتة وذلك لارتفاع دخولها الناتج عن النمو الهائل في عائدات النفط والثروات الأخرى.

ومن ثم فقد أصبح توفير أعداد كافية من الأطباء والصيادلة والممرضين والفنيين في كافة التخصصات يشكل هاجسًا يُقلق القيادات الصحية في مختلف القطاعات، وذلك فضلاً عن الجهد الذي يُبذل لاستقطاب واستقدام كفاءات بمؤهلات عالية بسبب التنافس الكبير بين عدد من الدول، وميل هذه الكفاءات نفسها وتطلعها إلى فرص عمل تتيح لها إمكانية تأمين مستقبل شخصي مناسب لها، وهذا التطلع يضع القيادات الصحية تحت ضغوط إمكانية استمرارها في مواقعها استهدافًا لتقديم خدمات أفضل وأمثل للمواطنين.
ومن هنا تبرز الرؤية الاستراتيجية الحصيفة لخادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - المبنية على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل، والرامية إلى ضخ استثمارات هائلة في هذا المجال، ففي أواخر شهر رمضان المبارك المنصرم، صدرت موافقته - حفظة الله - على قرارات مجلس التعليم العالي الخاصة بإنشاء 17كلية تركَّز جُلُّها في القطاع الصحي، فمنها كليات للطب والصيدلة والعلوم الطبية التطبيقية والتمريض والعلاج الطبيعي. وتضاف هذه القرارات إلى مجموعة أوامر وقرارات أخرى بإنشاء عدد من الجامعات ليتجاوز عدد جامعاتنا الوطنية 20جامعة خلال فترة وجيزة لتُلبِّي عبر تخصصاتها المختلفة متطلبات الخطط الخمسية الطموحة التي تستهدف توسيع قاعدة التنمية لتشمل المجالات الحيوية كافة في بلادنا.
ويقينًا فإن نتائج مثل هذه القرارات الاستراتيجية والخطط الطموحة لا تظهر على المدى القريب؛ بل هي في حقيقتها استثمار طويل الأمد يرمي إلى تخريج أجيال قادرة على الإسهام الفاعل في إعداد وتهيئة كفاءات ومهارات وطنية تشارك بدورها في تغطية احتياجات الخدمات الصحية حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال الحيوي.
إن مسؤولية تنفيذ مثل هذه القرارات وتحويلها إلى واقع ماثل تقع على عاتق مسؤولي التعليم العالي في مستوياته كافة، ذلك أن إنشاء كلية صحية على سبيل المثال يتطلب البحث عن قدرات أكاديمية متميزة تحمل تأهيلاً عاليًا في التخصصات الصحية المختلفة، إضافة إلى تمكُّنها من مجال التعليم الطبي والصحي، وهو بالطبع يختلف عن إنشاء مدرسة في التعليم العام الذي يُطبِّق معايير موحَّدة في اختيار العاملين، بجانب توفر مناهج يتم تصميمها وإعدادها مركزيًّا لخدمة هذا القطاع ككل. ومن المعلوم أن أي تخصص صحيح يتفرع إلى فروع عديدة ودقيقة تجعل من عملية تحديد التخصصات المختلفة ونوعية العاملين فيها؛ عملية معقدة ترهق القائمين على أمر تلك الجامعات أو الكليات، وهذا علاوة على أن التخصص العلمي لوحده لا يكفي؛ إذ لا بد من خبرة وتخصص في مجال التعليم الصحي تؤهل إلى القيام باختيار مناهج حديثة تعتمد على التعليم التكاملي الذاتي بمنأى عن الطرق التقليدية المشتهرة بالتركيز على التلقين مع إغفالها الواضح للطالب كأحد أضلاع العملية التعليمية؛ بل وعنصر نشط فيها.
كما يتابع المختصون في التعليم الطبي تطبيق تلك المناهج وطرق التقويم ومراقبة نوعية التعليم ومخرجاته. ولقد استشعر القائمون على جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية أهمية هذا الجانب، وبدأت من حيث انتهى الآخرون، إذ عوَّلت على اختيار مناهج إبداعية عديدة مستوحاة من جامعات عالمية مرموقة، واستطاعت تتويج تلك الجهود بخطوات جبارة تعدُّ الأولى على مستوى الوطن تمثلت في استحداث برنامج للدراسات العليا يختص بتخريج خبرات وطنية في مجال التعليم الطبي والصحي لتشكِّل نواة حقيقية لمختصين تناط بهم مسؤولية الإشراف على البرامج الأكاديمية المتعدِّدة، علاوة على ما يمكن أن يحدثوه من أثر كبير في وضع البرامج الأكاديمية الإبداعية الحديثة التي تعتمد على التعليم التكاملي الذاتي.

ونخلص من ذلك إلى أن المختصين في المجال الطبي أضحوا يمثلون ضرورة لا غنى عنها في سبيل الوصول إلى مخرجات تعليمية متميزة.
ولعل مما يعكس الحرص على السمو بالتعليم الصحي على اختلاف تخصصاته؛ ذلك الجهد المتقدم والمشكور الذي تتولاه الهيئة الوطنية للقياس والاعتماد الأكاديمي، التي استطاعت وضع معايير قياسية شاملة للبرامج الأكاديمية المختلفة تُؤهِّل أي منشأة أكاديمية صحِّية - قائمة أو جديدة - لتقويم نفسها ذاتيًّا كخطوة أولى لجميع كلياتها ومناهجها وخططها وخدماتها المساندة. وتبع ذلك حرصها على زيارة تلك المنشآت من أجل التأكيد على جودة برامجها التعليمية تمهيدًا لاعتمادها.
وفحوى القول إن العوامل الإيجابية التي تحيط بالتعليم الصحي ستؤدي - بحول الله - إلى تعليم صحي أكاديمي متميز بمخرجاته التعليمية ذات المستوى العالي التي ستكون داعمًا أساسيًّا للخدمات الصحيَّة المقدمة للطبقات والمستويات كافة.

@ جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق